القائمة الرئيسية

الصفحات

قصة أصحاب الأخدود والدروس المستفادة منها

 

الْغُلَامُ وَالرَّاهِبُ وَالسَّاحِرُ 

الغلام والساحر والراهب

      إن الله عز وجل إذا رأى من عباده من يظلم ويطغى، ويستعبد الناس، ويترك عبادة رب العالمين- يسر له من يقيم عليه الحجج والبراهين في الدنيا، حتى إذا أعذر الله عز وجل إليه أخذه أخذ عزيز مقتدر. وقد ضرب الله عز وجل للمؤمن أمثلة في كتابه وفي وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذه قصة الغلام المؤمن والراهب وأصحاب الأخدود، خير مثال يبين كيفية شق الداعية طريقه في الدعوة إلى الله مع تحمل الصعاب والابتلاءات من أجل الدين. وسوف نسرد القصة إن شاء الله، ثم نتدارسها معكم مقطعاً مقطعاً. 

وهي قصة من أجمل القصص ليس التي يقرؤها المسلم فقط، بل يمكن أن تكون من أجمل القصص التي يمكن أن يطلع عليها أي واحد من البشر، ولو أنا أوكلنا كتابة مثل هذه القصة إلى أعظم روائي في العالم فهل يا ترى سيكتب لنا قصةً مثل هذه في جمالها ودقتها، وعظم الفوائد المحتوية عليها، ومدى تأثيرها في النفس؟ لا يستطيع أحد مطلقاً، لا يمكن أن يأتي بشر بأجمل مما رواه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى :+ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ_.

ولقد ابتلينا في هذه الأيام بروايات سخيفة وقِصَصٍ ماجنة، يُقبِل عليها الكبارُ والصغارُ، من أفلامٍ ومسرحياتٍ ومسلسلاتٍ، فيها فسادٌ عظيم، وفي بعضها خرافات وشعوذات تفسدُ واقعيةَ الأطفالِ والشبابِ والكبارِ، وتنحرف بهم نحو عقيدةٍ فاسدةٍ، لذلك كان مما يُنصح به لكل والدٍ، لكل أخ أو أخت لديه أخاً أصغر منه أن يقرأ عليه هذه القِصَّةُ وأمثالُهَا من القصص النبوي ، حتى لو قبل النوم يقرؤها عليه، أو أن يجزئها له.

وهذه القصة التي معنا اليوم أخرجها الإمام مسلم في صحيحه -وأحمد الترمذي- من حديث صُهَيْبٍ الرومي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ [وهذه هي عادة الجبابرة من الملوك في كل زمان ومكان يتخذون لهم بطانة من السحرة يخدمونهم؛ ويثبتون بهم ملكهم، ويرهبون الناس بسحرهم، وإذا كان السحر قديمًا يُمارس عن طريق الكهنة فهو اليوم يمارس عن طريق سحر الكلمة التي تسحر العقول، فإن من البيان لسحرًا، وعن طريق سحر الإعلام الذي يسحر العيون من خلال الأفلام والمسلسلات والبرامج الموجهة وبعض الإعلانات في مختلف القنوات. ]  فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ (عند النسائي في السنن الكبرى والبيهقي في شعب الإيمان وأحمد في مسنده  إِنِّي قَدْ كَبِرَتْ سِنِّي وَحَضَرَ أَجَلِي) [ الآن انتبه أنه قد كبر في السن فهل سيفكر في التوبة ويعترف بكذبه أمام الناس وأنه خدعهم.. كلا فهؤلاء ومن كان على شاكلتهم لا يفكرون إلا في خدمة الباطل وأهله حتى الممات .. استمع ماذا قال للملكإِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَىَّ غُلاَمًا [والغلام في لغة العرب من كان بعد سن الفطام وقبل البلوغ] أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاَمًا يُعَلِّمُهُ.[طلب غلاماً صغيرًا لأن عقله فارغاً عن الانشغال بغير ما يتعلمه، فلا زوجة ولا أولاد ولا شيء يحمل همه، ولكي يطل بقاءه في خدمة الملك، فضلا عن استقبال ما يقال له دون اعتراض أو جدال]

 فَكَانَ فِى طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ [الراهب : المتعبِّد من النصارى] فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلاَمَهُ فَأَعْجَبَهُ فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ فَقَالَ إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَنِي أَهْلِى. وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِى السَّاحِرُ. [حبسني : منعنيأمره الراهب بذلك - مع أنه كذب - لأنه رأى أن المصلحة في هذا تربو على مفسدة الكذب، فهو إن أخبر أهله بأمر الراهب منعوا الغلام من الذهاب إليه، وإن علم الساحر بأمر الراهب حرض الملك على قتله، ولا يوجد مسلم بالقوم سوا هذا الراهب.

 فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ فَقَالَ الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِىَ النَّاسُ. فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ أَىْ بُنَىَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّى. قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنِ ابْتُلِيتَ فَلاَ تَدُلَّ عَلَىَّ .

وَكَانَ الْغُلاَمُ يُبْرِئُ الأَكْمَهَ [الأكمه : الذي ولد أعمى] وَالأَبْرَصَ [ذو البرص وهو مرض عَياء عجز عنه الطب القديم والحديث ، والبرص بياض يصيب الجلد البشري.] وَيُدَاوِى النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ [الأدواء : الأمراض والأسقام] .

فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِىَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ مَا هَا هُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِى فَقَالَ إِنِّى لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ. فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ. فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ قَالَ رَبِّى. قَالَ وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِى قَالَ رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلاَمِ.

فَجِىءَ بِالْغُلاَمِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ أَىْ بُنَىَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ ([1]). فَقَالَ إِنِّي لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ.

 فَجِىءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ[أي المنشار] فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِى مَفْرِقِ رَأْسِهِ [في مفرق رأسه : في مكان رفق شعره] فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ.

 ثُمَّ جِىءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ

ثُمَّ جِىءَ بِالْغُلاَمِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ. فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ [ذروة الجبل: أعلاه] فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاطْرَحُوهُ فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ. فَرَجَفَ بِهِمُ الْجَبَلُ[فرجف : تحرك الجبل واضطرب بهم] فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ. فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِى قُرْقُورٍ [القرقور : السفينة قيل الصغيرة وقيل الكبيرة] فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلاَّ فَاقْذِفُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ.فَانْكَفَأَتْ [انكفأت : انقلبت]  بِهِمُ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِى إِلَى الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ قَالَ كَفَانِيهِمُ اللَّهُ.

فَقَالَ لِلْمَلِكِ إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِى حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ تَجْمَعُ النَّاسَ فِى صَعِيدٍ وَاحِدٍ [الصعيد : الأرض البارز] وَتَصْلُبُنِى عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِى[الكنانة : وعاء السهام] ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ فِى كَبِدِ الْقَوْسِ[في كبد القوس : في وسطه وهو مقبضها عند الرمي]  ثُمَّ قُلْ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ.ثُمَّ ارْمِنِي فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِى. ([2])

فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِى كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ رَبِّ الْغُلاَمِ. ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِى صُدْغِهِ [في صدغه : فيما بين العين إلى شحمة الأذن] فَوَضَعَ يَدَهُ فِى صُدْغِهِ فِى مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ([3]) فَقَالَ النَّاسُ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلاَمِ.

فَأُتِىَ الْمَلِكُ [أتاه أعوان السوء]  فَقِيلَ لَهُ أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ قَدْ آمَنَ النَّاسُ.

وفي رواية الترمذي: (قالوا له: أجزعت أن خالفك ثلاثة فهذا العالم كلهم قد خالفوك).([4])وهنا ما الحل؟ فالناس آمنوا أي: الشيء الذي كان محذوراً قد وقع، والذي كان خائفاً منه قد حصل، فما الحل؟ لم يبق إلا الحل البشع أو الحل الجنوني والحل الانتقامي وهو القتل الجماعي، الإبادة الجماعية فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ [الأخدود : الشق العظيم في الأرض] فِى أَفْوَاهِ السِّكَكِ [بأفواه السكك : بأبواب الطرق]  فَخُدَّتْ [فخدت: أي شقت ] وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ [أضرم : أوقد] وَقَالَ مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا. أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ. فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِىٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ [تقاعست : توقفت ولزمت موضعها وامتنعت عن التقدم] أَنْ تَقَعَ فِيهَا فَقَالَ لَهَا الْغُلاَمُ يَا أُمَّهِ اصْبِرِى فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ».

تذكرنا هذه القصة بما يحدث لإخواننا في دولة بورما. عَجَّل الله بنصرهم

درس عظيم في التواضع

مثل هذه القصة فيها فوائد مباشرة وفوائد غير مباشرة، قد لا يحس بها القارئ أنه يستفيد، ولكن هو يستفيد، فمن ذلك مثلاً من القضايا الخفية:

أننا نتعلم درساً عظيماً في التواضع، كيف نتعلم درساً عظيماً في التواضع؟ لأننا نحن الآن الكبار نتعلم هذه الفوائد العظيمة من غلام، والغلام كما قال ابن علان في دليل الفالحين في شرح الحديث: والغلام في لغة العرب من كان بعد سن الفطام وقبل البلوغ، الذي يكون بعد الفطام وقبل البلوغ يطلق عليه غلام في لغة العرب، نحن الآن الكبار والشيوخ نتعلم من غلام، من هذا الغلام المؤمن، هذا فيه فائدة عظيمة في التواضع.

ترك الاغترار بالكافرين.

      قال سبحانه وتعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ [آل عمران:196] هذا خطاب آخر سورة آل عمران للرسول صلى الله عليه وسلم ولكل مؤمن، لا يغرنك يا أيها المؤمن انتصار هؤلاء انتصاراً ظاهرياً، أو غلبتهم الغلبة الظاهرية، لا يغرنك تقلبهم وتحكمهم في مقاليد الأمور في البلاد، وما هو هذا؟ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ [آل عمران:197-198] ويقول الله عز وجل: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ [إبراهيم:42-43].

      فإذاً رغم كل ما حدث فإن الدعوات التي سبقتنا انتهت نهايات كثيرة، وقد عرض القرآن نماذج لنهايات كثيرة انتهت فيها الدعوات، فقد عرض الله مثلاً مصارع الطغاة، وانتصار المؤمنين في قوم نوح وهود وصالح، وموسى لما غرق فرعون، فانتهى الطغاة وانتصر المؤمنون، والرسول صلى الله عليه وسلم هذا نموذج، نتيجة الجهود المباركة انتصر المؤمنون وهزم الكفرة، لكن كان لا بد من عرض صورة أخرى قد لا ينتصر فيها المؤمنون ولا يغلبون الكفرة، وتكون نهاية الغلبة للكفرة، فجاءت مثل هذه القصة؛ لتعرض هذا الأنموذج الذي يمكن أن يقع.حتى لا يستغرب المؤمنون أبداً إذا ما حصل شيء من هذا القبيل، ويعرف الناس بأن الانتصار الحقيقي هو انتصار الإيمان، وهو أن يموت الناس على طاعة الله وعلى التوحيد.

العاقبة والانتصار الحقيقي للمؤمنين 

الآن تبدو هذه النهاية نهاية مؤسفة، أي: أن الناس كلهم قتلوا إبادة جماعية، وتذهب الفئة المؤمنة مع آلام الاحتراق في الأخاديد، بينما الفئة الباغية قاعدة تنظر إلى المؤمنين وهم يحترقون ويتلذذون بصرخات المؤمنين. صحيحٌ أن في حساب الدنيا هذه النتيجة مؤسفة وأليمة، وقد يعتبرها بعض الناس هزيمة لكن عند الله عز وجل في حساب الآخرة النتيجة أكبر من ذلك بكثير، النتيجة عظيمة جداً كيف؟ أليسوا قد صبروا على دين الله، أليسوا قد قدموا أنفسهم في سبيل الله عز وجل؟ نعم.إذاً هذا هو الانتصار الحقيقي، الانتصار الحقيقي: هو انتصار الإيمان على الفتنة والطغيان، وليس كل الانتصار هو قضية الغلبة في الدنيا.


إذا أراد الله شيئاً غير ما يريده الكفار لم تنفع خططهم 

      هذا الغلام الذي أرادوا منه أن يكون وسيلة للغواية، أرادوا أن يكون منه ساحر المستقبل، أرادوا منه في البداية أن يكون ساحراً هذه خططهم، وهذه أساليبهم، وهذه نواياهم وإراداتهم، وهم يريدون شيئاً وأراد الله شيئاً آخر، هم يريدون أن يجعلوا الغلام كافراً، أرادوا أن يجعلوا منه وسيلة للضلال وإغواء الناس، وأراد الله شيئاً آخر أن يحاربهم بنفس السلاح الذي أرادوا أن يحاربوه به، وعكس مقصودهم عليهم، فجعل هذا الغلام بدلاً من أن يكون وسيلة غواية صار وسيلة هِداية،

بدلاً من أن يكون وسيلة إضلال صار وسيلة إصلاح وتعليم للناس.

      فإذاً أعداء الإسلام يخططون ويريدون، ولكن إذا أراد الله شيئاً آخر لا تنفع خططهم أبداً، بل إن الله قد يحاربهم بنفس السلاح الذي يحاربونه به، وإذا أراد الله أن يرد سهام هؤلاء ردها في نحورهم، إذا سلطوها على عباد الله المؤمنين، فإن الله قادرٌ على أن يرجعها إلى نحورهم.

 



([1]) الطغاة يستميلون أهل الحق إما بالترغيب أو الترهيب 

انظر إلى هذه العبارة العجيبة أولاً: استهلت بكلمة عاطفية، (أي بني)، يريد هذا الطاغية أن يستجلب الغلام ويستميله، فيأتي له بهذه العبارة أو بهذه الكلمة التي فيها نوع من العطف -أي بني- وهذا ليس أبوه، لا أبوة نسب، ولا أبوة تربية أو تعليم، فهذه الألفاظ المعسولة التي تستخدم في استمالة أهل الحق لعلهم يرجعون عن حقهم، (أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل).فإذاً هنا هذا الطاغية ينسب إبراء الأكمة والأبرص إلى السحر لماذا؟ لأنه يريد أن يُعمي الحقائق ويُضيع هذه المبادئ التي استقرت في نفس الغلام، يريد أن يحرف الطريق ويقول للغلام: إن هذا الإبراء الذي أنت تفعله ليس من عند الله، وإنما هو بسبب السحر، يقول: بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، إلى هذه الدرجة وصل بك السحر، أي: كأنه من باب الإعجاب، ولكن أهل الباطل دائماً يريدون أن يفسروا الحق بأي شيء باطل دون الحق.ولذلك بماذا فسر أنصار قريش القرآن؟ القرآن المعجز الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بماذا فسروه؟ قالوا: ساحر، كاهن، شاعر، مجنون، أي سبب، المهم إلا أن يكون القرآن من عند الله، فهم دائماً يريدون أن يفسروا الحق ويعزوا الحق إلى أي شيء آخر، إلا المصدر الصحيح للحق. وكأن هذا الرجل يريد أن يقول لهذا الغلام: إن عندك قدرة ذاتية تشفي بها المرض، يريد أن يثير في نفس الغلام نوعاً من التكبر والغطرسة، ويصرف هذا الغلام عن السبب الحقيقي في الشفاء، لكن أنى له ذلك، وقد استقر في نفس الغلام أن الشفاء من عند الله، قال: فقال: ( إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله ).هنا يأتي الرد من الغلام على هذه الشبهة والفرية، فالغلام ما سكت، بل قال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله، فرد الشفاء إلى الشافي وهو الله عز وجل، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث: (اللهم رب الناس أذهب البأس، اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت) وفي رواية: (لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر بلاءً ولا سقماً) هذا الدعاء الذي يدعى به للمريض، يدعى به لمن كان به مرض.فإذاً: الشافي هو الله عز وجل: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80] ولقد كان هذا الغلام -أيها الإخوة!- له أفعال كثيرة، وجهود كبيرة حتى إن هذا الملك سمع بها، فقال: تفعل وتفعل، أي: تفعل هذه الأشياء، فقد كان يسمع عن أخبار هذا الغلام، (إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب). 

([2]) قال العلامة العثيمين - رحمه الله: في هذا الحديث دليلٌ على: أن الإنسان يجوز أن يغرر بنفسه في مصلحة عامة للمسلمين فإن هذا الغلام دل الملك على أمر يقتله به ويهلك به نفسه وهو أن يأخذ سهماً من كنانته...إلخ...قال شيخ الإسلام : " لأن هذا جهاد في سبيل الله ، آمنت أمة وهو لم يفتقد شيئاً لأنه مات وسيموت آجلاً أو عاجلاً " .

([3]) لابد من العمل للإسلام دون النظر إلى النتيجة.

      كثيرٌ من الدعاة الآن يدعون إلى الله عز وجل، قد يرون النتيجة، ويبزغ فجر الإسلام من جديد، وينتشر الإسلام في الأرض وينهزم كل الكفار، قد يرون هذا؛ لكن قد لا يرون هذا. فإذاً نوع التربية وهدف التربية التي يتلقاها الإنسان المسلم، هو الذي يحدد ماذا سيكون موقفه في حال الهزيمة وفي حال الانتصار، فالغرض أيها الإخوة! إذاً: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105] المهم أن نعمل، لو حصلت النتيجة الحمد لله، لو ما حصلت الحمد لله على كل حال، يموت الإنسان وهو مستريح أنه قد عمل للإسلام.

([4]) المعركة بين المسلمين والكفار معركة عقيدة.

      قد يظن بعض الناس أن الخلاف بين المسلمين والكفار معركة اقتصادية، أو معركة عسكرية، أو معركة سياسية، لا، ولا شيء من هذا، المعركة حقيقةً بين المسلمين وأعدائهم هي معركة عقيدة وهذه القصة شاهد قوي جداً في هذا. يقول الله تعالى في سورة البروج: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:4-8].أي: ما فعلوا هذا الكلام ولا هذا الإحراق ولا هذا التعذيب ولا هذا الاضطهاد! وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8] فقط، لماذا أحرقوهم؟ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8].إذاً المعركة معركة عقيدة، وأعداء الإسلام يصورون أن المعركة ليست معركة عقيدة بل معركة مطامع دنيوية واقتصادية وسيطرة.. لكن الحقيقة أنها معركة عقيدة، إنهم لا يحاربوننا من أجل أشياء مادية فقط! بل يحاربوننا من أجل عقيدتنا، والذي يعرف هدف المعركة، يعرف كيف تسير الأمور. أما الذي يُضَلَّلَ بالأشياء الكاذبة ويُذَرُّ الرماد في عينه، فإنه لا يعرف كيف يسير ولا يعرف النهاية الحقيقية للمعركة، إذاً لا بد أن نعمل لكي تنتصر العقيدة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم أيها الإخوة! من جنده وأتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا من أهل الحق السائرين على طريق الله تعالى، وأن يجعلنا من المجاهدين في سبيل الله، وأن يختم بالصالحات أعمالنا، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل لنا بلاغاً إلى خير، وأن يصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأن يجعل عقيدتنا عقيدة سليمة، نحارب من أجلها، ونثبت عليها إلى يوم نلقاه عز وجل، والحمد لله أولاً وآخراً.

تعليقات

التنقل السريع